فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

سورة النصر مدنية وهي ثلاث آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا} منصوب بـ: {سَبِّحِ} وهو لما يستقبل، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة.
وروي أنها نزلت في أيام التشريق بمنىٍ في حجة الوداع {جَاء نَصْرُ الله والفتح} النصر الإغاثة والإظهار على العدو، والفتح فتح البلاد، والمعنى نصر الله صلى الله عليه وسلم على العرب أو على قريش وفتح مكة، أو جنس نصر الله المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ} هو حال من {الناس} على أن {رَأَيْتُ} بمعنى أبصرت أو عرفت، أو مفعول ثانٍ على أنه بمعنى علمت {فِى دِينِ الله أفواجا} هو حال من فاعل يدخلون، وجواب (إذا) {فَسَبّحْ} أي إذا جاء نصر الله إياك على من ناواك وفتح البلاد، ورأيت أهل اليمن يدخلون في ملة الإسلام جماعات كثيرة بعدما كانوا يدخلون فيه واحدًا واحدًا واثنين اثنين {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فقل: سبحان الله حامدًا له أو فصل له {واستغفره} تواضعًا وهضمًا للنفس أو دم على الاستغفار {إِنَّهُ كَانَ} ولم يزل {تَوبَا} التواب الكثير القبول للتوبة وفي صفة العباد الكثير الفعل للتوبة.
ويروى أن عمر رضي الله عنه لما سمعها بكى وقال: الكمال دليل الزوال، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها سنتين والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة النصر:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح}
يعني بالفتح فتح مكة والطائف وغيرهما من البلاد التي فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس: إن النصر صلح الحديبية، والفتح فتح مكة، وقيل: النصر إسلام أهل اليمن، والإخبار بذلك كله قبل وقوعه إخباره بغيب، فهو من أعلام النبوّة {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا} أي جماعات، وذلك أنه أسلم بعد فتح مكة بشر كثير، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه في فتح مكة عشرة آلاف، وكان معه في غزوة تبوك سبعون ألفًا وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر. وقد قيل: إن عدد المسلمين عند متوه مائة ألف وأربعة عشر ألفًا بل أكثر {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} قد ذكر التسبيح والاستغفار ومعنى بحمد ربك فيما تقدم.
فإن قيل: لم أمره الله بالتسبيح والحمد والاستغفار عند رؤية النصر والفتح، وعند اقتراب أجله؟
فالجواب: أنه أمر بالتسبيح والحمد ليكون شكرًا على النصر والفتح وظهور الإسلام وأمره بذلك وبالاستغفار عند اقتراب أجله ليكون ذلك زادًا للآخرة وعدة للقاء الله. اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة النصر مدنية، وآيها ثلاث آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله}
إظهاره إياك على أعدائك.
{والفتح} وفتح مكة، وقيل المراد جنس نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم، وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزًا للإِشعار بأن المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها فتقرب منها شيئًا فشيئًا، وقد قرب النصر من وقته فكن مترقبًا لوروده مستعدًا لشكره.
{وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أفواجا} جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وسائر قبائل العرب، و{يَدْخُلُونَ} حال على أن {رَأَيْتُ} بمعنى أبصرت أو مفعول ثان على أنه بمعنى علمت.
{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد حامدًا له، أو فصل له حامدًا على نعمه. روي «أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة بدأ بالمسجد فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات» أو فنزهه تعالى عما كانت الظلمة يقولون فيه حامدًا له على أن صدق وعده، أو فأثن على الله تعالى بصفات الجلال حامدًا له على صفات الإِكرام.
{واستغفره} هضمًا لنفسك واستقصارًا لعملك واستدراكًا لما فرط منك من الالتفات إلى غيره.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» وقيل استغفره لأمتك، وتقديم التسبيح على الحمد ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق. كما قيل ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله.
{إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} لمن استغفره مذ خلق المكلفين، والأكثر على أن السورة نزلت قبل فتح مكة، وأنه نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لما قرأها بكى العباس رضي الله عنه، فقال عليه الصلاة والسلام ما يبكيك، فقال: نعيت إليك نفسك، فقال: «إنها لكما تقول» ولعل ذلك لدلالتها على تمام الدعوة وكمال أمر الدين فهي كقوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أو لأن الأمر باستغفار تنبيه على دنو الأجل، ولهذا سميت سورة التوديع.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ سورة إذا جاء أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة شرفها الله تعالى». اهـ.

.قال أبو حيان:

سورة النصر:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}
قال الزمخشري: {إذا} منصوب بسبح، وهو لما يستقبل، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة، انتهى.
وكذا قال الحوفي، ولا يصح إعمال {فسبح} في {إذا} لأجل الفاء، لأن الفاء في جواب الشرط لا يتسلط الفعل الذي بعدها على اسم الشرط، فلا تعمل فيه، بل العامل في إذا الفعل الذي بعدها على الصحيح المنصور في علم العربية، وقد استدللنا على ذلك في شرح التسهيل وغيره، وإن كان المشهور غيره.
والنصر: الإعانة والإظهار على العدو، والفتح: فتح البلاد.
ومتعلق النصر والفتح محذوف، فالظاهر أنه نصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على أعدائهم، وفتح مكة وغيرها عليهم، كالطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن.
وقيل: نصره صلى الله عليه وسلم على قريش وفتح مكة، وكان فتحها لعشر مضين من رمضان، سنة ثمان، ومعه عليه الصلاة والسلام عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار.
وقرأ الجمهور: {يدخلون} مبنيًا للفاعل؛ وابن كثير في رواية: مبنيًا للمفعول.
{في دين الله}: في ملة الإسلام الذي لا دين له يضاف غيرها.
{أفواجًا} أي جماعات كثيرة، كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحدًا بعد وأحد، واثنين اثنين.
قال الحسن: لما فتح عليه الصلاة والسلام مكة، أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا: أما الظفر بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله تعالى أجارهم من أصحاب الفيل.
وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين.
منهم من قدم، ومنهم من قدّم وافده.
قال ابن عطية: والمراد، والله أعلم، العرب عبدة الأوثان.
وأما نصارى بني ثعلب فما أراهم أسلموا قط في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أعطوا الجزية.
وقال مقاتل وعكرمة: المراد بالناس أهل اليمن، وفد منهم سبعمائة رجل.
وقال الجمهور: وفود العرب، وكان دخولهم بين فتح مكة وموته صلى الله عليه وسلم.
و{أفواجًا}: جمع فوج.
قال الحوفي: وقياس جمعه أفوج، ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدّل إلى أفواج، كأنه يعني أنه كان ينبغي أن يكون معتل العين كالصحيح.
فكما أن قياس فعل صحيحها أن يجمع على أفعل لا على أفعال، فكذلك هذا؛ والأمر في هذا المعتل بالعكس.
القياس فيه أفعال، كحوض وأحواض، وشذ فيه أفعل، كثوب وأثوب، وهو حال.
ويدخلون حال أو مفعول ثان إن كان {أرأيت} بمعنى علمت المتعدية لاثنين.
وقال الزمخشري: إما على الحال على أن أرأيت بمعنى أبصرت أو عرفت، انتهى.
ولا نعلم رأيت جاءت بمعنى عرفت، فنحتاج في ذلك إلى استثبات.
{فسبح بحمد ربك}: أي ملتبسًا بحمده على هذه النعم التي خولكها، من نصرك على الأعداء وفتحك البلاد وإسلام الناس؛ وأي نعمة أعظم من هذه، إذ كل حسنة يعملها المسلمون فهي في ميزانه.
وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يكثر قبل موته أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك» قال الزمخشري: والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفًا لأمته، ولأن الاستغفار من التواضع وهضم النفس، فهو عبادة في نفسه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة»، انتهى.
وقد علم هو صلى الله عليه وسلم من هذه السورة دنو أجله، وحين قرأها عليه الصلاة والسلام استبشر الصحابة وبكى العباس، فقال: «وما يبكيك يا عم؟» قال: نعيت إليك نفسك، فقال: «إنها لكما تقول»، فعاش بعدها سنتين {إِنَّهُ كَانَ تَوبَا}: فيه ترجئة عظيمة للمستغفرين. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}
التفسير:
السورة المتقدمة اشتملت على نصرة الله بقوله: {يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] وعلى فتح مكة القلب بعسكر التوحيد، وعلى تسخير جميع القوى البدنية في طاعة خالقها بقوّة البراءة عن الأديان الباطلة كلها فقال الله سبحانه: نصرتني بلسانك فكان جزاؤه {إذا جاء نصر الله} فتح مكة في الظاهر وسخرت قواك لطاعتي فجازيناك بدخول الناس في دين الله أفواجًا. ثم إنه قابل هذه الخلع الثلاث بحكم تهادوا تحابوا بثلاثة أنواع العبودية إن نصرتك فسبح تنزيهًا لفعلي عن مشابهة المحدثات وتنبيهًا على أن لا يستحق أحد على شيء، وإذا فتحت مكة فاحمد لأن النعمة يجب مقابلتها بالحمد، وإذا رأيت الناس قد أطاعوك فاستغفر لذنبك وهو الاشتغال بماعسى أن يقع من لذة الجاه والقبول وللمؤمنين والمؤمنات، لأنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر وكان احتياجهم إلى الاستغفار أشد. وقوله: {إذا جاء نصر الله} معناه لا تذهب إلى النصر بل النصر يجيء إليك نظيره «زويت لي الأرض» يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك، ولا ترحل إلا إلى مقام قاب قوسين {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا} [الإسراء: 1] بل أزيد على هذا فأفضل فُقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا، فإذا بقي الفُقراء من غير مطية أسوق الجنة إليهم {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد} [ق: 31] وإنما قال في السورة المتقدّمة {ما أعبد} [الكافرون: 3] وهاهنا قال: {نصر الله} إشارة إلى أنه يجب أن لا يذكر اسمي مع الأعداء حتى لا يهينوه ولكن اذكر اسمي مع الأحباب حتى يكرموه. والفرق بين النصر والفتح أن النصر أي الإعانة على تحصيل المطلوب هو الطريق، والفتح هو المقصود، ولهذا قدم الأول على الثاني.
وقيل: النصر كمال الدين والفتح الإقبال الدنيوي له ولأمته كقوله: {أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3] وقيل: النصر هو الظفر على المنى في الدنيا والفتح في الآخرة {وفتحت أبوابها} [الزمر: 73] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدًا منصورًا بالدلائل والمعجزات إلا أن الغلبة على قريش بل على أكثر العرب لما حصلت في هذا التاريخ صح التقييد به. ثم إن جمهور المفسرين ومنهم ابن عباس ذكروا أن الفتح هو فتح مكة الذي يقال له فتح الفتوح. يروى أن فتح مكة كان سنة ثمان ونزول السورة سنة عشر ولم يعش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إلا سبعين يومًا ولذلك تسمى سورة التوديع، وقد اتفق أكثر الصحابة على أنها دلت على نعي الرسول صلى الله عليه وسلم وفهمه بعض الصحابة منها، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها فقال: إن عبدًا خيرّه الله بين الدنيا وبين لقائه في الآخرة فاختار لقاء الله.
قالوا: ومما يدل عليه أنه ذكر مقرونًا بالنصرة وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر، والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير فإن فتح البلد لكن لم يأخذ القوم. أما يوم فتح مكة فاجتمع له الأمران، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم «وذلك أنه صلى الله عليه وسلم وقف على باب المسجد وقال: لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم قال: يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خير، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» فسموا بذلك.
وقيل: فتح خيبر.
وقيل: فتح الطائف.
وعن أبي مسلم: النصر على الكفار وفتح بلاد الشرك على الإطلاق.
وقيل: انشراح الصدر للخيرات والأعمال الفاضلة، والفتح انفتاح أبواب المعارف والكشوف. أما الذين قالوا إن الفتح فتح مكة وكان نزول السورة قبله على ما يدل عليه ظاهر صيغة إذًا فالآية من جملة المعجزات لأنها إخبار بالغيب وقد وقع. واللام في الفتح بدل من الإضافة كأنه قيل: وفتح الله. قوله: {ورأيت} ظاهره أنها رؤية القلب، وجوز أن تكون رؤية البصر فيكون {يدخلون} حالًا. وظاهر لفظ الناس يقتضي العموم فيجيب أن يقدر غيرهم كالنسناس بدليل قوله: {أولئك كالأنعام} [الأعراف: 79] وسئل الحسن بن علي فقال: نحن الناس وأشياعنا أشباه الناس وأعداؤنا النسناس، فقبّله على بين عينينه وقال: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] قيل: إنهم لما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير فكيف استحقوا المدح بأنهم الناس؟ وأجيب بأنه إشارة إلى سعة رحمة الله فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية سبعين سنة فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره قبل إيمانه كأن الرب تعالى يقول: ربيته سبعين سنة مات على كفره وقع في النار وضاع إحساني إليه في سبعين سنة. ويروى أن الملائكة تقول لمثل هذا الإنسان: أتيت وإن كنت قد أبيت.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد والظمآن الواردة» ويجوز أن يكون المراد بالناس أهل اليمن على ما روي عن أبي هريرة انه لما نزلت السورة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر جاء نصر الله والفتح. وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية» وقال: «إني لأجد نفس الرحمن من جانت اليمن» قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمين: إن إيمان المقلد صحيح لأنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على نبيه. ثم إنا نعلم قطعًا أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدلائل ولا صفات الكمال ونعوت الجلال، وكونه سبحانه متصفًا بها منزهًا عن غيرها ولا ثبوت المعجز التام على يد محمد صلى الله عليه وسلم ولا وجه دلالة المعجزة على النبوة.
وعن الحسن: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت العرب: لا يدي لنا به فقد ظفر بأهل مكة وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وكل من أرادهم بسوء فأخذوا يدخلون في الإسلام أفواجًا من غير قتال. ولا شك أن هذا القدر مما يفيد غلبة الظن فقط. والفوج الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحدًا واحدًا واثنين اثنين. وروي أن جابر بن عبد الله بكى ذات يوم فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخل الناس في دين الله أفواجًا وسيخرجون منه أفواجًا». ثم إنه أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار فكأنه صلى الله عليه وسلم ضاق قلبه عن تأخير النصر كما قال: {وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} [البقرة: 214] فأمر بالتسبيح تنزيهًا لله عما لا يليق بكماله وحكمته وعنايته بخلقه، وأمر أن يكون التسبيح مقرونًا بالحمد لأن المقام يستدعي تذكير النعمة وهي الفتح والنصر ودخول الناس في الدين من غير متاعب الجهاد ومؤن القتال، ثم أمر بالاستغفار كفارة لما عسى أن يبدو ويدور في الخلد من ملاحظة حاله بعين الكمال، وكما أن التسبيح المقرون بالحمد نظر من الحق إلى الخلق فالاستغفار عكسه وهو التفات عن الخلق إلى الحق. وإنما فهمت الصحابة من السورة نعي النبي صلى الله عليه وسلم لأن كل كمال فإنه يدل على زوال كما قيل: إذا تم أمر يدا نقصه توقع زوالًا إذا قيل تمويمكن أن يقال: إنه أمر بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقًا. ولا يخفى أن الاشتغال بهذه الأعمال يمنع من الاشتغال بأعباء التبليغ وبأداء ما كان يواظب عليه من رعاية مصالح الأمة، فكان هذا كالتنبيه على أن أمر الرسالة قد تم وكمل بسبب الموت والإلزام العزل. «روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة كان يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك» وفي رواية: «كان يكثر أن يقول في ركوعه: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي» وفي رواية أخرى «كان نبي الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله وبحمده. فقلت: يا رسول الله إنك تكثر من قول سبحان الله وبحمده قال: إني أمرت بها وقرأ السورة» وعن ابن مسعود أنه لما نزلت هذه السورة كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «سبحانك الله وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم» وفي الآية تنبيه على أن العاقل إذا قرب أجله وأنذره الشيب أقبل على التوبة والاستغفار وتدارك بعض ما فات في أوان الغفلة والاغترار. وفي معنى الباء في قوله: {بحمد ربك} وجوه للمفسرين منها: أن المراد قل سبحان الله والحمد لله تعجبًا مما أراك من مقصودك. يقال: شربت اللبن بالعسل أي خلطتهما فشربت المخلوط. ومنها أن الباء للآلة أي سبحه بواسطة تحميده لأن الثناء يتضمن التنزيه عن النقائص، والدليل عليه أنه صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة بدأ بالتحميد قائلًا الحمد لله الذي نصر عبده. ومنها أن المراد فسبح متلبسًا بالحمدنية لأنك لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظًا فاجمعهما نية.
وقيل: سبحه مقرونًا بحمد الله على ما هداك إلى تسبيحه كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: «الحمد لله على الحمد لله.»
وقيل: الباء للبدل أي ائت بالتسبيح بدل الحمد الواجب عليك في مقابلة نعمة النصر والفتح لأن الحمد لا حصر له {وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34] وقيل: فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لله أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الآخر لوجوب الإتيان بكل منهما على الفور كما لو ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب وجب أن يقول اخترت الشفعة بردّي ذلك المبيع.
وقيل: الباء صلة أي طهر محامد ربك عن النقائض والرياء. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن التربية هي الموجبة للحمد، أما الاستغفار فإن كان لأجل الأمة فلا إشكال، وإن كان لأجل نفسه فإما للاقتداء وإما لترك الأولى والأفضل، وإما بالنظر إلى المرتبة المتجاوز عنها فإن السالك يلزمه عند الارتقاء في كل درجة يصل إليها أن يستغفر عما يخلفها. وفي قوله: {توابًا} دون أن يقول (غفارًا) كما في سورة نوح إشارة إلى أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم بل هذه الأمة امتثلوا فاستغفروا وتابوا فوجب على فضل الله قبول توبتهم بخلاف قوم نوح. اهـ.